نُشِرَ المقال أولًا في (الأربعاء، 18 يونيو 2014) بعنوان «دلائل المثقف الزائف». وقد حصلت عندنا مُراجعات بخصوص مصطلح «المثقف» دعتنا إلى تركه، واستخدام مصطلح «العالم» و«المُتعلِّم» في مَحلِّه. وهذه نسخة مُهذَّبة ومَزيدة من المقالة، تسبقها فذلكة في تاريخ التعَّالم على لسان فُحول النُّظَّار.
إنَّ تعالُمَ الجُّهَّال وحملتهم، وغارة المُتعَالِمين وصولتهم؛ أمور مُشَاهدة، وليست أمورًا مُتخيَّلة صادرة عن نُخبوية أو استعلاء. والظَّاهرة ليست جديدة، بل هي قديمة عريقة؛ ولكنَّ وسائل التواصل الحديث تُسهِّل الاجتراء والتظاهُر.
وليس غرضنا هنا التقليل من أحد بعينه أو استصغاره، وإنما التنبيه على الأمر؛ لدراسته وتجنُّبه والتحذير منه. فنحن في المقام الأول نتوقى منه في أنفسنا ونعِظُها، ونتوقاه فيمن نعدُّهم في مقامِ أنفسنا من الإخوة والأصدقاء.
وقبل الولوج في المقالة، نُمهِّد بطائفة من أقوال فُحُول النُّظَّار في المسألة.
فذلكة في تاريخ التَّعَالُم
فائدة: كلمة «فَذْلَكَة» تعني مُوجَز أو مُختَصر، ويخلط الناس بينها وبين كلمة «حَذْلَقَة» التي تعني المِراء والمماحكة في الصغائر.
يصفُ الجاحظُ في «رسالة التربيع والتدوير» أحد مُتعالمي زمانه: «كان ادِّعاؤُه لأصناف العلم على قَدْر جهله بها، وتكلُّفُه للإبانة عنها على قدر غباوته عنها. وكان كثير الاعتراض، لهِجًا بالمِراء، شديد الخلاف، كلِفًا بالمجاذبة، مُتتابعًا في العُنُود، مؤثرًا للمُغَالبة؛ مع إضلال الحُجَّة، والجهل بموضع الشُّبهة، والخطرفة عند قِصر الزاد، والعجز عند التوقُّف، والمحاكمة مع الجهل بثمرة المِرَاء، ومغبَّة فساد القلوب، ونكد الخلاف. وما في الخوض من اللغو الداعي إلى السهو، وما في المجاذبة من النكد، وما في التَّغَالُب من فُقْدان الصواب. وكان قليل السَّماع غُمْرًا، وصَحَفيًّا غُفْلًا؛ لا ينطق عن فِكر، ويثق بأول خاطر. يعُدُّ أسماءَ الكتب ولا يفهم معانيها، ويحسد العلماء من غير أن يتعلَّق منهم بسبب، وليس في يده من جميع الآداب إلَّا الانتحال لاسم الأدب».
ويتكلم ابن رشدٍ في «تلخيص السفسطة» عن أصحاب الحكمة المُرائية: «كثير من الناس يحبون أن يُوصفوا بالحكمة ويُعظَّموا بتعظيمها من غير كلفة ولا تعب، أو من غير أن يكونوا أهلًا لذلك. إذا كانوا ممن لا يمكن فيهم تعلُّم الحكمة، كان ذلك سببًا لأن يَعتَمِدَ هذا الجنس من القول كثيرٌ من الناس؛ يُرَاؤون به، ويوهمون أنهم حكماء، من غير أن يكونوا في الحقيقة حكماء. ولذلك سُمُّوا باسم: الحكمة المُرائية، وهو الذي يُعنَى باسم السفسطة والسوفسطائيين في لسان اليونانيين. وبَيِّنٌ أن هؤلاء حرصهم إنما هو أن يُظَنَّ بهم أنهم يعملون عمل الحكماء، من غير أن يعملوا عملهم».
أما ابن حزمٍ فيصف بعض طرائقهم في ستر سَوْءة جهلهم: «التهويل بلزومِ زيٍّ ما، والاكفهرار، وقلة الانبساط؛ ستائر جعلها الجُهَّال -الذين مكَّنتُهم الدنيا- أمام جهلهم». ويصوِّر ابن قتيبةٍ في «أدب الكاتب» أقوالهم: «ترجمةٌ تروق بلا معنى، واسم يهول بلا جسم؛ فإذا سمع الغُمْرُ والحدَثُ الغِرُّ قوله: الكون والفساد، وسَمْع الكيان، والأسماء المفردة، والكيفية والكمية والزمان والدليل، والأخبار المؤلفة؛ راعه ما سمع، وظن أنَّ تحت هذه الألقاب كلَّ فائدة وكلَّ لطيفة، فإذا طالعها لم يَحْلَ منها بطائل».
دلائلُ المُتعَالِم
فوَا عَجَبا كم يدَّعي الفَضْل ناقصٌ
ووا أسَفا كم يُظْهِرُ النَّقصَ فاضلُ
شيخ المعرة
بغضِّ النظر عن المهام الاجتماعية والسياسية والتثقيفية التي يُنيطها بعضهم بالعَالِم، فإن العِلَم سلوك معرفي في المقام الأول، وقد تتلوه أدوار توعوية أو اجتماعية في المقام الثاني؛ وهذا متوقف على فلسفة العَالِم ورؤيته لنفسه ومهمته.
لكن قد يتلبَّس البعضُ بجلباب العلم، لأجل تحقيق مآرب سياسية أو اجتماعية أو شخصية، قد تكون صالحة في حد ذاتها؛ لكنها تتوسَّل وسائلَ مدخُولة، وتخالطها مطامع ذاتية، قد لا تكون مادية بالضرورة وإنما تتعلََّق بإثبات الذات، وكذلك الرياسة والتصدُّر، وتنطوي على شعور بالنقص.
وهذا الداء يُودِي بكل أمانة علمية وتواضع معرفي، وهي الصفات الجوهرية في سلوك العالِم والمتعلِّم؛ فبها يصبح عالِمًا، وبدونها يُمسي مُتعالمًا.
وبما أن انتحال العلم غدا أمرًا شائعًا كل الشيوع، وتصدر المُتعالمون للكتابة والحديث، وعلا صوتهم في كلِّ ناد؛ أرتأينا بيان بعض الدلائل التي تدل على مدع العلم، جمعناها مما وقفنا عليه من مشاهدات، أضفنا إليها ما اطلعنا عليه من قراءات. وهي تدلُّ على خليط من المغالطات المعرفية والانحرافات السلوكية، وانحطاط في الأهداف والغايات.
بعض خصال المُتعالم
– الانتصار للنفس: يرى المُتعالِم أن رأيه امتداد لذِاته، ولذا لا يدخر جهدًا في تزوير المقالات والاحتجاجات، انتصارًا لهذا الرأي؛ ومن ثمَّ فهو ينتصر لنفسِه. وهو لا يُبالي إن كذب، أو حرَّف، أو أتى تأويلًا مُشتطًّا.
– العجلة في انتحال المذاهب والآراء: وعجلته في الانتحال صادرة عن تعجله في قطف الثِّمار، وليُقال عنه: مثقف، وعالِم، وفيلسوف؛ بأسرع الطرق وأقصر الأزمان.
– عدم العدول عن رأي ولو أيقن أنه خاطِئ: فلا يُغيِّر رأيًا اشتهر بين الناس أنه قائله؛ حتى لا يظُنَّ ظان أن هناك من هو أعلم منه، أو أمضى حجةً، قد حمله على تغيير رأيه.
– غزارة الدلالة وقحط المدلول: تجده كثير الكلام والكتابة والردود، لكن إذا نظرت في كلامه وجدته -كما يقول الوضعيُّون المناطقة- «لا يقول شيئًا»؛ لافتقار ما يقوله لبديهياتِ العقل وخبراتِ الحسِّ.
– الولع بغريب الألفاظ والمصطلحات: إذ يُوقِع هذا في روع المتلقي غير الخبير حُسنَ الظنِّ بعلمِ القائل؛ فالمُتعَالِم يستخدِم المفردات الرنانة لتغطية فقره المعرفي.
– إيراد أسماء أعلام العُلماء بلا حساب ولا مناسبة: ينطوي هذا على أمرين، أحدهما التهويل على المتلقي وإشعاره بأن القائل خبير بمقالات هؤلاء العلماء، والآخر إرهابُ المستمع بهذه الأسماء حتى يُقرَّ للمُتعالِم دون نظر في أدلته.
– ضِيقُ الأفق وعدم القدرة على التجديد: مرجع هذا الجمود هو سقوط هِمَّة المُتعالِم، فتجده مولعًا بتكرار أمور حفظها ولم يعها؛ فلكأنَّ شؤون الفِكر، عندهُ، قصيدة شعر.
– اقتصاره على التلقي والسماع، دون القراءة والاطلاع: وهذا مترتِّب على أمور عدة سبق ذكرها؛ منها تعجُّله في قطفِ ثمرة العلم، وعدم جَلَدِه على مشاقِّ التحصيل.
هذه بعضُ دلائل المُتعالِم، وليست هي كل الدلائل؛ لعلَّ النفع يحصل بها للقارئ الفطين، وتكون عونًا على كشف المُدَّعين وتجنُّب مزالقهم.